الزوجان في الإسلام
الزوجان في الإسلام الحقوق والواجبات
د. راغب السرجاني
تُمَثِّلُ الأسرة المسلمة لبنة أساسية في صرح المجتمع الإسلامي، وهي حصن هذا المجتمع وقلعته وصمام أمنه وأمانه.
وقد اعتنى الإسلام أعظم العناية بالأسرة، وشرع لها نظامًا دقيقًا مُحْكَمًا، بَيَّنَ فيه حقوق وواجبات أفرادها، ونَظَّمَ معاملات الزواج، والنفقة، والميراث، وتربية الأولاد، وحقوق الآباء، كما غرس بينهم المحبَّةِ والمودَّة والرحمة؛ وذلك لأنَّ في تقوية الأُسْرَةِ وضبط سلوك أفرادها تقويةً للمجتمع وضبطًا لحركته، ونشرًا للقيم الإنسانية والاجتماعية الرفيعة بين أبنائه، وهكذا يرتقي الإسلام بالمجتمع في صورة حضارية لا مثيل لها، ويبعد به عن الفوضى والتحلُّلِ الخُلُقي وضياع الأنساب.
دعائم الأسرة في الحضارة الإسلامية
تقوم الأسرة في الحضارة الإسلامية على دِعامتين مهمَّتَيْنِ هما أساس تكوينها: الرجل والمرأة؛ أي الزوج والزوجة، فهما الأساس في تكوين الأسرة وإنجاب الذُّرِّيَّة، وتناسُلِ البشريَّة التي تتكَوَّن منها الأُمَّة والمجتمع؛ يقول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].
ويقول أيضًا: {واللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72].
ولقد اعتنى الإسلام عناية فائقة بهاتين الدِّعامتين الأساسيتين، فوضع تشريعًا مُحْكَمًا للعَلاقات الزوجيَّة، ورسم حدودًا واضحة لكل واحد منهما بما له وما عليه، وقسَّمَ الأدوار بين الزوجين؛ ليقوم كل واحد منهما بدوره الكامل في بناء الأسرة، والمساهمة في بناء المجتمع الإنساني على امتداده.
فَسَنَّ الإسلام أوَّلاً أمر الزواج، وهدف من ورائه حفظ النوع الإنساني وإمداد المجتمع بأفراد صالحين يُستخلفون في الأرض، ويقومون بمسئولية البناء والإعمار التي هي مقتضى الخلافة فيها، وكذلك هدف من ورائه إلى حصانة الفرد والمجتمع من الرذيلة والتردِّي الأخلاقي؛ حتى إن الرسولقال مخاطبًا الشباب: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"[البخاري عن عبد الله بن مسعود: كتب النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم (4779)، ومسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1400)].
ولما فَكَّر بعض الشباب في التفرُّغ للعبادة واعتزال النساء، زجرهم الرسول ونهاهم عن ذلك، وهو ما جاء في القصة التي يرويها أنس بن مالك حيث يقول: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النَّبيِّ يسألون عن عبادة النبي، فلمَّا أُخْبِرُوا كأنَّهم تَقَالُّوهَا فقالوا: وأين نحن من النبي؛ قد غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه وما تأخَّر؟ قال أحدهم: أمَّا أنا فإنِّي أصلِّي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدَّهر ولا أُفْطِرُ. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا.
فجاء رسول الله إليهم فقال: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" [البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776)، ومسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1401)].
الرهبانية في العصر الحديث
ولقد جَنَتِ الإنسانية على نفسها الكثير جَرَّاء هذا التفكير القاصر ممن ترهبنوا وحَرَّمُوا الزواج من تلقاء أنفسهم؛ حتى إن العقلاء في أوربا في العصر الحديث لمَّا رَأَوُا الرهبنة لا تُنْتِجُ إلاَّ الفساد في الظلام، حرموها بعد تجارِب خمسة عشر قرنًا من الاضطراب والخلل؛ حيث آل الأمر بالكثير من الكُهَّان والقساوسة، إلى ممارسة اغتصاب الأطفال من الذكور والإناث، حتى إنه شاع هذا في أوربا وأمريكا، واستقال أو فُصِلَ المئات منهم، واضطربت الكنيسة وفزعت لِهَوْلِ هذه الانحرافات والاعتداءات الجنسية، وقد جَنَّبَنَا دينُنَا الحنيف هذا كله، وأراحنا من تجارِب بائسة ومن آلام مريرة[انظر: محمد بن أحمد بن صالح: حقوق الإنسان في القرآن والسنة وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية ص134].
من أهداف الزواج
لقد هَدَفَ الإسلام من وراء الزواج حصول السكن النفسي للفرد؛ مما يجعله يُفرغ ما يعتمل في نفسه من مشاعر وعواطف تدفعه إلى العطاء والإبداع، ويُعَدُّ الزواج - أيضًا - ملاذًا لكلٍّ من الزوجين؛ يُفْضِي أحدهما إلى الآخر، ويكون له نِعْمَ الأنيس ساعة الوحدة، ونِعْمَ الجليس ساعة الغربة، قال الله سبحانه:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، وبهذه الأركان الثلاثة الواردة في الآية (السكن والمودة والرحمة) تتحقَّق السعادة الزوجية التي أرادها الإسلام.
معايير اختيار الزوجين في الإسلام
وقد أمر الإسلامُ الزوجين بأن يُحْسِنَ كلُّ واحد منهما اختيار صاحبه، فقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، وقال النبي- يأمر الزوجَ باختيار الزوجة الصالح ذات الدين:
"تُنْكَحُ الْـمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"[البخاري عن أبي هريرة: كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين (4802)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين (1466)].
وقال- كذلك يأمر الزوجة باختيار زوجها على نفس المعيار والأساس: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ؛ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"[الترمذي: كتاب النكاح عن رسول الله، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه (1004)، وابن ماجه (1967)، والحاكم (2695) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وحسنه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (1022)].
ولا ريب في أن هذا الاختيار وذاك الأساس من شأنه أن يَعُودَ بالنفع على المجتمع الإنساني؛ إذ من شأنه أن يُخْرِجَ جيلاً صالحًا هو ثمرة هذين الزوجين الصالحين؛ لينشأ بعد ذلك في أسرة وَدُودَةٍ متحابَّة، تعيش في ظلِّ المبادئ والقيم الأخلاقية الإسلامية.
عقد الزواج في الشريعة الإسلامية
ولمَّا كان عقد الزواج من العقود ذات الشأن الكبير؛ لَزِمَ أن تسبقه مقدِّمات تُمَهِّدُ له، وتضمن بقاءه ودوامه، بل إن الشريعة الإسلامية لم تعتنِ بمقدِّمات أي عقد من العقود سواه، فقد اعتنت بها وجعلت لها أحكامًا خاصَّة، ومقدِّمَاتُ عقد الزواج هي ما يُعْرَفُ بالخِطبة، وهي مرحلة تستهدف التفاهم والتقارب، وتُتيح للطرفين معرفة بعضهما بصورة أكبر، وعلى ضوء ذلك يتمُّ تحديد الاستمرار في مشروع الزواج أو العدول عنه.
كما تشترط الشريعة الإسلامية لصحَّة عقد النكاح: وجوب إشهاره؛ والحكمة في ذلك أن له شأنًا عظيمًا في نظر الإسلام؛ لما يُحَقِّقُهُ من المصالح الدينية والدنيوية، فهو جدير بأن يَظْهَرَ شَأْنُهُ ويُذَاعَ أَمْرُه؛ وذلك منعًا للظنون ودفعًا للشبهات.
هذا، وقد أحاط الإسلام عقد الزواج بأوثق الضمانات التي تَكْفُلُ سعادة الزوجين، وتأتي بالخير لأسرتيهما؛ فجعل الرجال قوَّامين على النساء بما أعطى كل واحد منهما من الإمكانات والقدرات، فقال تعالى:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].
وبهذه القوامة أوجب الإسلام مهرًا على الزوج، وجعله من حقِّ الزوجة، فقال تعالى:
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4].
كما جعل من حقوقها -أيضًا- النفقة عليها، ويُقْصَدُ به ما تحتاجه المرأة من طعام، وكسوة، وسكن، وعلاج، وغيره. وكذلك معاشرتها بالمعروف؛ لقوله تعالى:
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. وفي مقابل ذلك جعل الإسلام للزوج على زوجته حقَّ الطاعة، وهو من أهم حقوقها عليه.
وهكذا جعل الإسلام لكلٍّ من الزوجين حقوقًا نحو الآخر، وواجبات يُؤَدِّيهَا له، وطالبهما بحُسْنِ العشرة والاعتدال في المعاملة، والتعاون في الحياة المشتركة بينهما، ثم رسم الطريق القويم لعلاج ما قد ينشأ بينهما من خلاف ومشكلات، وشرع الطلاق أخيرًا حين يستعصي على الزوجين إقامة حدود الله، والوقوف على ما رسمه الشارع للسير في عَلاقة الزوجية[انظر: محمد بن أحمد بن صالح: حقوق الإنسان في القرآن والسنة وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية ص135-138].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق